فرضية النظافة.. هل حرماننا من العدوى يؤدي للحساسية؟

إننا اليوم في عصر وباء لا تسببه أي جرثومة، إن السبب في هذا الوباء ليس بكتيريا، ليس فيروسا، ليس طفيليا، ليس فطريات، إنه سببه المناعة! هجوم المناعة على جسد المريض ذاته، هجوم أحد أجهزة المريض لنفسه!
الإحصائيات تؤكد هذا الوباء، بالذات في الدول الصناعية المتقدمة. مؤخرا قرأت مراجعة أدبية Literature Review تحاول تفسير هذه الظاهرة ، وتقدم فرضية النظافة Hygeine Hypothesis كتفسير محتمل لهذه الظاهرة. فما هي فرضية النظافة؟ وما أسباب الشك فيها؟
إن شيوع الأمراض المناعية والتحسسية أكبر في الدول المتقدمة والصناعية. شيوع مرض مثل الربو Asthma في المملكة المتحدة صار 15%. أكثر دولة فيها شيوع لمرض الربو في أفريقيا هي دولة جنوب أفريقيا، التي يصادف أنها أكثر دولة أفريقية ذات دخل اقتصادي عالٍ. نسبة التهاب الجلد التأتبي Atopic Dermatitis تضاعفت في العقود الثلاثة الماضية في الدول الصناعية، لتصل إلى 15-30% من الأطفال و2-10% من البالغين. نسبة الأمراض المناعية مثل النوع الأول من السكري زادت في تلك الدول.
ما السبب؟
لماذا الأمراض المناعية والتحسسية زادت في تلك الدول؟ فرضية النظافة The hygeine hypothesis تحاول تفسير هذه الظاهرة بإلقاء اللوم على النظافة الشخصية في تلك الدول! أول من اقترح هذه الفرضية كان ستراشان، الذي لاحظ علاقة عكسية بين حساسية الأنف وعدد الأشقاء الأكبر سنا، أي: لما زاد عدد الأشقاء أكبر سنا، قلت نسبة حدوث حساسية الأنف. هذا جعله يربط بين قدر النظافة العالي (عند أول شقيق) وحدوث مرض تحسسي مثل حساسية الأنف.
تتابعت الدراسات لتحاول استكشاف هذا الرابط أكثر. وجدت دراسة أن وجود أشقاء أكبر سنا يحمي من أمراض مثل الربو والتصلب المتعدد وحساسية الأنف والسكري من النوع الأول. وجدت دراسة أخرى أن تعرض الأم الحامل للحيوانات والبيئة الزراعية تحمي الطفل من الأمراض التحسسية عند بلوغه. وجدت دراسة أن التعرض للسموم الداخلية Endotoxins (الموجودة في البكتيريا سلبية الجرام) في أيام الحياة الأولى يحمي من الأمراض التحسسية. أنا لست مما يحب وجود حيوانات أليفة في البيت وأتقزز منها، ولكن الدراسات أوضحت أن وجود حيوان أليف في المنزل أثناء حمل الأم يقلل خطر إصابة الطفل بالربو لاحقا.
على الحيوانات، وجد دراسة أن الظروف المعقمة لها علاقة طردية مع حدوث السكري من النوع الأول في الفئران. وجدت دراسة أن البكتيريا المتفطرة Mycobacterium تحمي الفئران من التهاب الدماغ والنخاع الشوكي المناعي.
لن أعرض جميع الدراسات التي تدعم هذه الفرضية حفاظا على حجم المقال، ويمكن لكم التعمق أكثر في قراءة الموضوع عبر الورقة التي سأضعها في المصادر..
كيف يحدث هذا؟
الميكانيزمية التي تسبب ارتفاع احتمال الأمراض المناعية في الدول المتقدمة لا يزال تحت البحث والجدال. البعض اقترح أن السبب هو غياب التنوع البكتيري في تلك الدول، مما ينقل الدور المناعي من خلايا Th1 (المسئولة عن المناعة الخلوية) إلى خلايا Th2 (المشاركة في التحسس وإنتاج IgE)، مما يعرض الشخص إلى الأمراض التحسسية. مشكلة هذه النظرية هي أن الأمراض المناعية المعتمدة على Th1 يمكن الوقاء منها بسبب البكتيريا التي تحفز Th1، كما أن الأمراض التحسسية يمكن الوقاء منها بسبب الديدان التي تحفز Th2، مما قد يجعلنا نستنتج أن السبب وراء الظاهرتين واحد وليس بسبب ميل نحو واحد منهما.
حاول الآخرون تفسير الظاهرة على أنها بسبب إنتاج السيتوكينات التنظيمية Regulatory Cytokines في حالة التعرض للبكتيريا والديدان، مما يقلل من فرص حدوث الأمراض المناعية عند التعرض لها..
لا تزال الرؤية ضبابية، ولا يوجد تفسير مؤكد للظاهرة حتى اليوم.
الاستغلال العلاجي
إذا.. هل يمكن لنا استغلال ملاحظاتنا علاجيا؟ تعريض البشر للبكتيريا أو الديدان عمدا يحمل في طياته خطورة، لأننا قد نتسبب في مضاعفات خطيرة بسبب الجرثوم، لكن فهمنا الأعمق للميكانيزمية سيساعدنا على استغلال تلك الملاحظات لحماية أنفسنا مستقبلا من الأمراض المناعية.
في تجربة أجريت على مرضى داء كرون Crohn's disease، وجدت أن التعاطي المتعمد لبيض دودة Trichuris suis مرة كل 3 أسابع لمدة 6 أشهر، أدى لتحسن أعراض مرض داء كرون في 21 مريضا من أصل 29 مريضا. بيض دودة Shistosoma mansoni وجد أنه فعال في منع النوع الأول من السكري في الفئران. لا يزال البحث في هذا المجال بطيئا وحذرا بسبب خطورة التجربة كما وضحت لكم.
وفي النهاية.. تذكر أن المبالغة في أي شيء، حتى المبالغة في التعقيم والقضاء على الجراثيم، قد يكون ضارا لنا ولأطفالنا، وطبق هذه القاعدة على أي شيء حرفيا.
مراجع ومصادر
- Okada H, Kuhn C, Feillet H, Bach JF. The 'hygiene hypothesis' for autoimmune and allergic diseases: an update. Clin Exp Immunol. 2010 Apr;160(1):1-9. doi: 10.1111/j.1365-2249.2010.04139.x. PMID: 20415844; PMCID: PMC2841828. Available from: https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC2841828/